الجمعة، 23 مارس 2012

استنتاجات فلسفية من وحي "نقد العقل المحض" لكانط


النّقد، سلاح الفكر، والطّريق الملكي الأسمى لتحرير العقل من براثن الموروث، ومن كونه ضرورة تاريخيّة للتطوّر وشرط رئيسي يضمن صيرورة تطوّر الفكر الانساني، انطلق الفيلسوف الألماني "ايمانويل كانط" في عمل دؤوب لانجاز مشروعه التنويري الضّخم، الذي جسّده في كتابه الشّهير "نقد العقل المحض" ، ليؤسّس منهجا نقديّا صارما، يستحثّ الخطى نحو رؤية معرفيّة جديدة، تحرّر المعرفة (الابستمولوجيا) من أطر نظريّة تلجمها، وضاربا بعرض الحائط هالة القدسيّة ودائرة المقدّس  في أن، لا سيّما أنّها أفلحت على مدى قرون طويلة في تغييب الحس النّقدي والعقل.

فن النّقد، وقدرة مذهلة على التفكيك والتحليل، والتّرابط المحكم والوثيق بين مفهوماته وأفكاره المتسلسلة، سمات تميّز بها عبقري اسمه كانط، ليرسي على اثرها قواعد مشروع حداثي هائل عالج جزأ كبيرا من اشكالات قصور الذّهن البشري، واتّكاليّته المقيتة، سيرا على مبدأ "دع غيرك يفكّر بالنّيابة عنك".
ولنقل للدقّة أن كانط بعقله الفلسفي الجبّار، أتاح لنا عبر موسوعته الفلسفية "نقد العقل المحض" وسيلة لاعادة نظر مستمرّة في المفاهيم الفلسفية، ليست على نحو علاقة علّة بمعلول فحسب، بل تملّك كامل للمفاهيم التحليليّة، التي تفصل بين العام والخاص، وتستبق التّجربة بأحكام قبليّة، فالمعرفة من وجهة النّظر الكانطية تبدأ عند التّجربة، ولا تنشأ عنها كما زعم الفلاسفة التجريبيون أتباع هيوم، وأعني بالتجربة الحادثة التي تستفزّ حدس الفرد ومدركاته الحسيّة، وتدفعه قُدُما نحو الابحار في عالم المعرفة وطرائقه الشّائكة والوعرة.
العقل المحض عند كانط هو العقل المتعالي عن كلّ تجربة حسيّة، أحكامه قبليّة، وهي ضروريّة لا مفرّ منها لفهم كل تجربة، لا كما زعم هيوم، ولولاها لما عقلنا شيئا سواء أكان تصوّرا أو تصديقا، وصيغة ذلك الاسهاب الفلسفي تبلورت عند كانط بتشييده برزخا فاصلا بين الأشياء في ذاتها، وبين ما نُدركه ونعقله، وللمادّة عينيّة خارجيّة مستقلّة عن ادراكنا، ونحن لا نُدركها الّا على النحو التي هي عليه، في صورتها العيانيّة، وفي هذا السّياق يبرز السّؤال التّالي: اذا كيف تكون الأشياء العيانيّة في ذاتها قبل أن نُدركها ؟
هُنا برزت عبقريّة كانط في استنباطه لمفاهيم قوالبيّة، ليست على الاطلاق وبأي حال من الأحوال موضوعات لادراكنا، بل قوالب فكريّة في العقل البشري، تتأطّر ضمنها المّدركات الحسيّة، ووفق هذه الكيفيّة تأخذ الأشياء الماديّة معنى لها ضمن عقولنا، وتلك القوالب الفكرية تشمل مفاهيما على شاكلة (الزّمان، المكان، الضّرورة، العليّة، والعنصر)، جميعها لا تُدرك في ذاتها، بل انّ التّعامل معها دون الأخذ بعين الاعتبار خصوصيّتها الماهويّة، يوقع صاحبها في تناقضات لا حلّ لها، وهو الفخ الذي نصّبته الميتافيزيقا وفلاسفتها لأنفسهم.

تلك المفارقة شكّلت عقبة للميتافيزيقا نظرا لأنّها تعاملت مع تلك المفاهيم القوالبيّة على أنها موضوعات للادراك ، وليست كقوالب فكريّة تتموضع فيها مدركات الحس (مدخلات العقل)..
فأسئلة على شاكلة "هل هناك حدود لهذا الكون ؟ وهل الرّوح خالدة ؟" واعتماد قانون العليّة (السّببيّة) لاثبات وجود الاله، مفارقات توقع أصحابها في فخ التّهافت، لأنّها تُعامل الزمان والمكان والضرورة على أنّها موضوعات للادراك، في حين أنّها ليست كذلك على الاطلاق. ومن هذا المنطلق تحديدا أيقن كانط أن مسائل الميتافيزيقا والايمان لا يُمكن اثباتها عبر العقل النّظري (ألمحض) لأنّها تُفضي الى مفارقات وتناقضات، وقابليّة ادراكها تنحصر ضمن حدود العقل الأخلاقي (الاجتماعي)، لا النّظري..

وكيف لقانون العليّة (السّببية) أن يحجر مقعده في العقل النّظري المحض ؟ والعليّة مصلح لا يدّرك في ذاته وليس موضوعا للادراك بالأساس ؟ ناهيك عن أن تسلسله وصولا لعلّة العلل الكُبرى عمليّة غير عقلانيّة أصلا  ؟
......

لا شكّ ان كانط قصم ظهر الميتافيزيقا ووجّه لها ضربة موجعة في عمله الفلسفي الجبّار هذا، وفي المقابل زوّد روّادها من رجال دين وعلماء لاهوت بأدوات نقديّة، علّهم يُعقلنون خطابهم بما يتوافق مع مُعطيات الحداثة والتقدّم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق