الأحد، 17 فبراير 2013

الثورة المضادة وصعود الفاشية القومية والدينية.. مقاربة تاريخية




منطق التاريخ ان ياتمر بالتغير والحركة، في صراع مستمر بين النقائض، تتحدان على قاعدة الواقع المادي، من موقع الاختلاف في شروط وجودهما التاريخية، لا من موقع التماثل، تهيئان الظروف بذلك في وحدة صراعهما المستمر في المجتمع لنفي القديم ومولد الجديد. ومع تعاقب الأزمات الاقتصادية، تتراكم الظروف وتسرّع مولد شرارة الانتفاضة والهبّة الشعبية، التي تنتكس هي الاخرى وتعود للتوهج على نحو لولبي، الى أن تفرز قيادة منظمة قادرة على حمل تطلعات الفئات ذات المصلحة المباشرة في التغيير.
تاريخ الراسمالية حافل بالازمات الدّورية المتعاقبة، نتيجة لجوهر الاستغلال القائم في هذا النظام الناجم عن احتكار وسائل الانتاج بأيدي طغمة احتكارية محدودة، تحوّل طاقة العمل البشرية الى بضائع ونقود، يراكم بها الرأسماليون أرباحهم على حساب استثمار قوة عمل ملايين العمال والكادحين على اختلاف تدرجاتهم وأماكن عملهم، في قطاعات صناعية كانت أم خدمية.
ومع كل أزمة تعصف بالرأسمالية، تُهَيَّأُ تربة أكثر خصوبة لثورات، وتلقي مزيدا من المهمات على عاتق العامل الذاتي للتغيير، الحزب الثوري، وفي المقابل تسعى دائما لاحتواء تناقضاتها المستمرة وتفريغها والحيلولة دون تراكمها،  ولاعادة انتاج نفسها بما يحفظ الطبقة المسيطرة ويؤبد من سلطتها، ويحصّنها من التفكيك والتدمير. ولا ضير من الترويج لأكثر الافكار تطرفا ورجعية في سبيل ذلك، بما يمنع من تبلور النقيض الطبقي وذراعه النقابي والحزبي المنظم.

من هنا اقترن مفهوم الفاشية ببناء فوقي (فكري) لحكم طبقة مسيطرة، تتسلّح الفاشية دوما بخطاب عاطفي يستثير النزعات العصبوية، طائفية كانت أم غرقية، لتكريس انقسام عمودي في المجتمع، يحول دون غرس الوعي الطبقي في صفوف الفئات الشعبية الكادحة والمفقرة، ويفرّغ الصراع من تناقضه وشروط وجوده، من حقيقة كونه مادي بالأساس ناجم عن التناقض الفعلي بين قوّة العمل والملكية الخاصة لوسائل الانتاج، بين مُستَثمَر ومُستَثمَر، ويستعيض عنه بتزييف طبيعة الصراع، وتصويره بصراع قائم في الفكر المجرّد، في الفكرة الأزلية التي تمجّد العرق المصطفى بين نظيره من الاعراق، أو في الدّين الأصح الذي ينير لأتباعه السبيل للخلاص الأزلي، في الغاء تام للقوانين الموضوعية التي تحكم حركة التاريخ وتدفع بمجتمعاته نحو التغيير والتطور.

في ألمانيا، وبعد الهزيمة الساحقة التي منيت بها جيوش الامبراطورية ابان الحرب العالمية الأولى، من قوى الاستعمار القديم (بريطانيا وفرنسا) الطامحة لاقتسام كعكة مستعمرات الامبراطوريات الأخذة في الاضمحلال (الامبراطورية العثمانية والامبراطورية النمساوية-المجرية)، والهادفة بذلك لتوسعة الرقعة الجغرافية المتاحة لتسويق فائض انتاجها الضخم وجلب المزيد من المواد الخام والموارد من المستعمرات،على وقع مرارة الهزيمة تلك، تنامت المشاعر القومية المتطرفة لدى البورجوازية الصغيرة (الطبقة الوسطى) تحت وطأة الأزمة الاقتصادية الخانقة "أزمة الكساد العالمي" التي عصفت بالدول الامبريالية بدءا من الولايات المتحدة ومرورا بالدول الصناعية المتقدمة في أوروبا، ازداد على اثرها ضغط التناقضات الاقتصادية بشكل لا يحتمل على الطبقة الوسطى الأخذة في التهاوي والانسحاق، فتراكمت فيها الديون وأفلست الكثير من المعامل والمصانع وأوصدت أبوابها، ورمت بجيوش جرارة قوامها الملايين في مهب البطالة.

بدا الظرف الموضوعي ناضجا لثورة اشتراكية في البلاد، مع تزايد شعبية الحزب الشيوعي  وحزب الاشتراكيين الديموقراطيين، وتغلغلهم الناشط في أوساط نقابات العمال واتحاداتهم، لكن في المقابل هيّأ الظروف لأبناء الارستقراطية العسكرية والبورجوازية الصغرى التي أثقلت كاهلها الأزمة الاقتصادية، لان تشكّل حركة جماهيرية جبارة، يأسرها ويشفي غليلها زعيم ذو سلطة نفسية خارفة، وكاريزما خطابية مؤثرة مغرقة في عدائيتها للماركسية والأقليات الاثنية من يهود وغجر وسلاف، مشكّلة قوّة بشرية جمحاء يجري استعمالها كألة من أجل تحطيم الحركة العمالية، بكافة السبل والوسائل الارهابية والدموية، تجلّى ذلك في انتزاع الشرعية الانتخابية من النواب الشيوعيين بعد حصول الحزب النازي على ثلثي مقاعد البرلمان في انتخابات 1929، ثم الزّج بقادتهم وكوادرهم في معسكرات الاعتقال، تلاها فرض اجراءات أمنية تضيق عمل ونشاط النقابات العمالية.

يلاحظ من تجارب صعود الفاشية للحكم في الدول الصناعية المتقدّمة، التي تجاوزت مرحلة الثورات الصناعية، وأرست دول المواطنة التي تذيب بموجبها –نسبيا- الهويات الفرعية (الطائفية والعرقية)،  ونجحت في تحييد المؤسسة الدينية عن الحكم وفصلها عن الحكم وعلمنة المجتمع –الى حد كبير-، بأنها لا تكفي التحالف الطبقي المسيطر لأن يمارس أقصى شروط استغلال ممكنة بالطبقة العاملة في نطاق قطرها، بل تحتاج لتوسيع مجال استغلالها الحيوي، عبر غزو دول الجوار واستعمارها، واستعباد شعوبها بذريعة التفوق العرقي، وهو ما حصل بالفعل في نموذج هتلر الذي احتل نصف اوروبا في بداية الحرب وزج بملايي البشر في معسكرات اعتقال لم يشهد التاريخ ما يفوقها فظاعة وقسوة!
أما في دول الأطراف (العالم الثالث)، أشباه المستعمرات، فتختلف طبيعة القوى الفاشية جوهريا، من حيث طبيعة المجتمع ودرجة تطوره، اخذين بعين الاعتبار أن مجتمعات كهذه لم تتخطى الاقطاع نحو الثورات الصناعية وما تفرزه من ديموقراطيات ناضجة ضمن السياق الليبرالي للتعريف، اذ تسود فيها التقسيمات ما دون الوطنية، الطائفية والعشائرية والجهوية، ويختزل شكل الدولة ضمن جهاز سلطوي لا يفصل بين مؤسسات الحكم، بل ياخذ طابع حكم العائلة، ويحمي مصالح طبقة من وكلاء المصالح الغربية ، ويوفّر حصانة لسطوة احتكاراتها، مكرّسة نمط اقتصاديا مشوّه بنيويّا، اشبه ما يكون باقتصاد البازار الخاضع لفوضى العرض والطلب في السوق العالمية، والمثقل بديون الدّول المانحة التي لا تسد، تحتاج الامبريالية في مرحلة كهذه مع اشتداد أزماتها الاقتصادية وأخرها الأزمة التي انفجرت عام 2008، لاعادة انتاج هيمنتها على قاعدة الوكيل المتغيّر، الملتزم بالحفاظ على الثابت "التبعيّة"، وتوظيفه بشكل جديد مختلف شكليا عن انظمة المافيا المتهالكة التي انقضت فترة صلاحيتها، لاجهاض أي انتفاضة شعبية عفوية (الربيع العربي)، في حالة كهذه وجد الغرب الامبريالية ضالته في الأصولية الدينية وراس حربتها جماعة الاخوان المسلمين، وشركاءهم الأكثر رجعية "السلفيين"، اذ يوظف هؤلاء لتكريس ذات النمط الاقتصادي المشوّه ، متسترين خلف عباءة من القدسية، تحصّنهم لوهلة من النقد لدى شرائح واسعة من الجماهير التي استلب وعيها البسيط لصالح المؤسسة الدينية وأبواق دعايتها، لا سيما بعد ضرب حركة التحرر العربية ولجم اليسار في عقود مضت. تساعدهم في ذلك ارضية اقتصادية ضخمة في متناولهم قوامها مؤسسات الزكاة والعمل الخيري ومراكز تحفيظ القرأن، وبنوك ومستشفيات، تدر رؤوس أموال خليجية ضخمة، تمكّنهم من الصرف على اكبر كتلة اجتماعية من أبناء الطبقة الوسطى المعرضة للافقار الشديد بفعل سياسات التحرير الاقتصادي والخضوع لاملاءات المؤسسات المالية الكبرى.

تبرز ملامح الفاشية الدينية من حيث الخطاب الايدولوجي المحرّض على الأقليات الطائفية الاخرى، والمتشدّق بثقافة "الفرقة الناجية من النار"، في تماهي كامل مع أفكار الربع الخالي وأيدولوجيا النفط والغاز التي نجحت في غسل أدمغة كثير من شباب الجيل الحالي، عبر خلق عدو بديل يتمثل في الشيعة "الروافض"، عوضا أن يكون الصراع الحقيقي تناحري مع الكيان الصهيوني، وفي ذلك تحريف متعمد لبوصلة الصراع، كما لا تتوارى هذه القوى بغطاء من الخطاب التكفيري المنبعث من المساجد وقنوات التحريض الديني الخاضعة تحت سيطرتهم، عن التصفية الجسدية بحق معارضيهم وكل من يتهدّد سلطتهم الأخذة في التوسع المستمر، والهدف تقويض مؤسسات الدولة والقبض على اجهزة حكمها خطوة بخطوة، بدءا من القضاء وانتهاءات بالصحافة والاعلام.
 
الفاشية في شكلها الأكثر دموية "النازية"، او في مظهرها الوظيفي الأنعم "الاسلام السياسي" في الوطن العربي شبه المستعمر، تجسّد الثورة المضادة ، في عدائها لأي تغيير يمس علاقات الملكية السائدة والحيلولة دون أي ثورة تستبدل البنية الاقتصادية الاجتماعية القديمة بأخرى جديدة، في مسعى لتابيد السائد وادامة شروط الاستغلال، وايقاف ايقاع التقدّم الذي تسير عليه عجلة التاريخ.

هناك 3 تعليقات:

  1. رفيق السبب الحقيقي في خسارة الأحزاب الشيوعية في ألمانيا قرارات الإتحاد السوفييتي المتغيرة حسب مزاح القائد الخالد ستالين بأن يسمح مرّة في التحالف مع البرجوازية الصغيرة ومرّة لا يسمح

    عندما كانت الدّور على أن القرار لا يسمح في التحالف مع أحزاب البرجوازية الصغيرة فلم يتحالف الحزب الشيوعي مع الحزب الإشتراكي فحدث إنقسام داخل القوى السياسية في الداخل مما سمح للنازية بالوصول عبر سلسلة من الإنتخابات

    ردحذف
  2. صديقي وسام .. لم ادافع ابدا عن ستالين .. بكل تأكيد اوامره بموجب الكومنترن في رفض اي تحالف للشيوعيين مع الاشتراكيين الديموقراطيين ساهم في صعود الحزب النازي ومن ثم استئثاره بالسلطات

    ردحذف
  3. صديقي لم أقل أنّك دافعت :)

    أنا أضفت من بعد إذنك فقط

    ردحذف